0




الحمد لله العدلِ الحقِّ القائل: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين"{النساء:135} والصلاة والسلام على إمام المتقين الناصحين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه الموفين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:








فهذه رؤوس أقلام حول بحث: فقه التعامل مع المخالف من إعداد الأستاذ الفاضل/ سعيد بن ناصر بن عبد الله الناعبي، وهو بحث مختصر نفيس قيم.. وليس لمثلي أن يعقب على أمثال هؤلاء المشايخ الأجلاء فالعاقل لايضع رأسه بين الجبال، ولكنه من باب الاستفادة من أطروحاتهم الغنية أحسن الرحمن إليهم، وحق لمثلي أن يقول:

فسيروا على سيري فإني ضعيفكم وراحلتي بين الرواحل ضالع

لقد قسم الباحث بحثه إلى ثلاثة محاور:

المحور الأول: تعامل النبي عليه الصلاة والسلام مع المشركين في المجتمع المكي وتعامله مع اليهود في المجتمع المدني وتعامله مع المنافقين.

المحور الثاني: تعامل أهل الحق والاستقامة السادة الإباضية ـ رضوان الله عليهم ـ مع المخالفين من أبناء الملة الإسلامية.

المحور الثالث: تعامل أهل الحق والاستقامة السادة الإباضية ـ رضوان الله عليهم ـ مع غير المسلمين.

وقد تطرق الباحث في المحور الثاني إلى حرمة دماء المخالفين وأعراضهم وأموالهم لدى الأصحاب وعدم تشريكهم وكيفية التعامل مع آرائهم.. وستكون مداخلتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في هذا المحور، وتحديدا في تعامل الأصحاب مع المخالفين في المسائل الخلافية.



إن مواقف أهل الحق والاستقامة السادة الإباضية ـ رضوان الله عليهم ـ مع مخالفيهم من أبناء الملة الإسلامية تترجم بحق شعارهم الذي استمد نصاعته من قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون"{المائدة:8} فلا جرم أن تجد التاريخ الإباضي مشرقا بعدله وشهادته لله جل جلاله.



هذا، والمسائل الخلافية ـ كما هو معلوم ـ قسمان: مسائل دين ومسائل رأي، فمسائل الدين لايجوز الخلاف فيها لورود النص القطعي بخلاف مسائل الرأي التي يسع فيها الاختلاف لعدم وجود النص القطعي..



فما نظرة أهل الحق والاستقامة السادة الإباضية ـ رضوان الله عليهم ـ للمخالفين بكلا القسمين؟!



مسائل الدين:

إن مسائل الدين لايتعدد فيها الحق لورود النص القطعي فيها ثبوتا ودلالة، والأصحاب يؤمنون إيمانا لامرية فيه أنهم على الحق المبين في مسائل الدين، إلا أنهم لايحكمون على المخالف في مسائل الدين بتأويل بالكفر الملي، فمهما وجدت من إطلاق حكم الكفر عليه فإنما يعنون به كفر





النعمة لا كفر الملة، وبالتالي يحرم دمه وماله وعرضه والكذب عليه وظلمه، ويزوَج ويورَّث ويرث ويصلى خلفه وعليه ويدفن في مقابر المسلمين ويعامل بالحسنى ويعاشر بالمعروف، وعموما له جميع حقوق الإسلام إلا حق الوَلاية؛ لأنه عارض نصا قطعيا، هذا من حيث الحكم.

أما من حيث تداول تلكم المسائل فلا يداهنون ولايظلمون، وينظرون لها من منظار ماخالف الحق فهو باطل وإن كثر، ولذا تجد قوام كتاباتهم الحجة والبرهان لا القذف والبهتان، والناظر في آثار الأصحاب ابتداء من آثار الإمام الربيع رحمه الله على المخالفين إلى كتب علمائنا في هذا العصر يتبين هذا الأمر بجلاء.

مع التنبيه على أمر في غاية الأهمية وهو: إن إحقاق الحق وإظهار حججه وإبطال الباطل وتبديد شبهه لايمنع من التعايش السلمي مع المخالفين، وسيرتنا تغني عن التطويل في هذا المبدإ.




مسائل الرأي:
أما مسائل الرأي فهي التي خلت من الدليل القطعي، واستندت على دليل ظني ثبوتا أو دلالة، وهذه المسائل الأمر فيها واسع، فلا يفسق فيها المخالف ألبتة فضلا عن تشريكه، ففي الوقت الذي ترى فيه عدل الأصحاب في عدم تشريك المخالف في مسائل الدين بتأويل نجد من بعض علماء القوم تشريكا للمخالف في الرأي بل واستباحة دمه!! فأي الفريقين أهدى سبيلا؟!

فلا جرم أن تجد عالما محققا من الأصحاب ينتصر لرأي عالم من علماء القوم في مسائل الرأي الخلافية استنادا للدليل، ولايضيره كونه مخالفا، فالصواب أولى بالاتباع، وهذه البصيرة العميقة لم تتبلور على مر القرون بل كانت متأصلة ملازمة لأهل الحق، فالمتأمل في مدونة أبي غانم الخراساني يجد إنصافا لانظير له من حيث التعامل مع فقه المخالف لدرجة أنها تستحق دراسة تحليلية ليرى العالم نور الإنصاف في زمان نحن بأمس الحاجة إليه.



وفي الوقت الذي تجد خلو كتب القوم من تحقيقات الأصحاب تجد كتبنا ملأى بأقوال علماء القوم، فإن كانت صوابا فتلقى التأييد لا النكران وإن كانت خطأ فتجد الرد بالحجة لا بالبهتان.



هذه الدقة الكبيرة والرؤية العميقة من حيث التعامل مع المخالفين في المسائل الخلافية سواء كانت دينا أو رأيا هي من أعظم المميزات التي امتاز بها أهل الحق والاستقامة السادة الإباضية رضوان الله عليهم، فحق لفقه التعامل مع المخالف عند الأصحاب أن يحظى باهتمام خاص ودراسات مستفيضة ليس في إطار المذهب فحسب بل في إطار الأمة جمعاء.




وأختم بكلمات أوجهها لنفسي ولطلبة العلم من الأصحاب حول نقطة جوهرية في فقه التعامل مع المخالفين عند الأصحاب وهي: عدم الذوبان في فقه القوم، الوقوف عند الدليل والبرهان شيء، والذوبان في فقه القوم شيء آخر، فإذا ما طالعنا كتب علمائنا الأجلاء تجد ذلكم الصراط المستقيم والمعيار القويم في تناول مسائل الرأي عند القوم بدون ذوبان فيه إطلاقا الأمر الذي نجد خلافه عند طائفة من طلبة العلم من الأصحاب الذين لم يستوعبوا منهج الأصحاب في التعامل مع مسائل الرأي عند القوم، فظنوا الأمر متروكا على عواهنه بلا حدود، فظنوا الانسلاخ تسامحا محمودا فتجد خطيبا أو محاضرا أو كاتبا يتكلم في قضية معينة، ويغرقها بكم هائل من روايات القوم وأقوالهم: أخرجه البخاري ومسلم ووووو، قال الشافعي ومالك ووووو، ورد في كتاب فتح الباري وتفسير الرازي وووو، ولا تجد أثرا من مسند الإمام الربيع و مدونة أبي غانم الخراساني وووو أو قولا للإمام جابر بن زيد والإمام أبي عبيدة رحمهما الله تعالى وووو أو نصا من جامع ابن بركة و المعتبر و بيان الشرع ووووو، لسنا ضد الأخذ من أسفار القوم، ولكننا ضد إهمال كنوز أهل الحق، فعطر فاك بذكر أقوالهم ثم إن شئت عرِّج على أقوال القوم متى وافقت الدليل والحجة، أما أن يكتفي الواحد منا بما لدى القوم في خطاب لايُعنى بإلزام القوم فهذا مجانب تماما لمنهج أصحابنا رضوان الله عليهم في فقههم في التعامل مع المخالف فتسطير مايقرب من عشرة آثار من مدونة أبي غانم في تحريم الغناء أولى من الاكتفاء برواية من جامع البخاري!! وهلم جرا.

وإنه ليحز في النفس ويكدر الخاطر أن ترى قوافل العائدين إلى مذهب أهل الحق معتزين بتراث أئمته الغني في الوقت الذي ترى فيه طائفة ممن ينتسبون للمذهب لايلقون بالا لذلكم التراث العظيم، وإن سمعت أحدهم أو قرأت لأحدهم فلن تشم ذلكم النفس الزكي بله مايجره ذلك المسلك الوعر من تأثير في الجانب العقدي فيما بعد.



وإن نسيت فلن أنس جهود الكثير من شبيبة أهل الحق في المحافظة على تراث مذهبنا العظيم والسعي الدؤوب لنشره والافتخار به.



هذا ما أحببت ذكره في هذه العجالة، فما كان من صواب فمن الرحمن، وما كان من خطإ فمن نفسي والشيطان، وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم.

اللهم صل صلاة كاملة وسلم سلاما تاما على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار في كل لمحة ونفس بعدد معلوماتك.



وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين..

كتبه العبد الفقير إلى مولاه
الراجي عفوه ورضاه
أبو البراء محمد بن سيف بن هلال العامري